Friday 14 March 2008

يوم في شهر مارس







اليوم جاءتها رغبة ملحة في شرب كوب من القرفة باللبن..رغم أن الجو معتدل و هي لا تهوى شرب القرفة باللبن إلا في الليالي الباردة..أعدت الكوب و قربته من أنفها و هي تستنشق الرائحة المميزة و أغمضت عينيها و ارتشفت أول رشفة فشعرت باليد الدافئة تحتضنها برفق و تربت على رأسها في حنو بالغ ..مر الطيف في خيالها ففتحت عينيها سريعا لتمنع نفسها من الإنزلاق و الغرق في بحر من الذكريات





صعدت في خطوات سريعة إلى سطح المنزل لتقوم بجمع الملابس المنشورة منذ الأمس.. حاولت المقاومة لكنها لم تستطع الإمتناع عن دفن وجهها في الملاءة الوردية آملة أن تجد فيها بقية من رائحة.. إرتسمت على وجهها أمارات خيبة الأمل حين خذلتها الملاءة ..فهي ملاءة عادية لا تحمل صفة الإعجاز حتى تحتفظ برائحة جسد لامسها لآخر مرة منذ خمس سنوات








جاءت بالأطباق لتجهز طاولة الطعام فوجدت أنها أحضرت طبقا زائدا..أخفته فزعة وراء ظهرها كأنها تخفيه عن عينيها و عن تفكيرها..كيف لها ألا تنتبه..خمس سنوات مرت دون أن ترتكب تلك الغلطة..فلا أسهل من طبق فارغ ليذكر الحاضر بمن غاب.. مر الطيف مرة أخرى .دفعته دفعا خارج ذهنها هذه المرة فلا توجد لديها -اليوم بالذات- القدرة على إنقاذ قلبها من اليد التي تعتصره كلما سمحت للذكرى بأن تستقر في ذهنها للحظات






تلك الأغنية التي تنطلق من حانوت الهدايا على ناصية الشارع تسبب لها الإختناق..لماذا لا يشعرالناس بنتيجة أفعالهم ..ألا يعلم صاحب الحانوت ان تلك الأغنية..تلك الأغنية بالذات قد تفتح جرحا داميا في قلبها جاهدت سنوات لتغلقه..أغلقت النوافذ و حاولت شغل نفسها حتى لا تسمعها إلا أن صوت الأغنية ظل يخترق أذنيها متسللا في خفة و قسوة إلى القلب فيدميه





ترتدي ملابسها في حدة و غضب مصرة على النزول للعراك مع صاحب الحانوت..ضيق ..حزن ..ألم..اللعنة على شهر مارس..لابد لها من إيقاف ذلك الجلد المستمر لها و لغيرها..لابد أن الكثيرون يشاركونها ذلك الشعور..فلتنصب نفسها مدافعة عن حقوقهم..لن تنزوي و تدعو أن يمر هذا اليوم بسلام ..بل ستعترض و إن لم يفهم الرجل فلا مفر إذا من العراك




تنزل بسرعة إلى الشارع متجهة إلى الحانوت ..يفتح الباب فتسمع صوت الأجراس الصغيرة ..و تراها.. فتاة في العاشرة تحمل على وجهها إبتسامة إنتصار. تحتضن بين يديها الصغيرتين علبة صغيرة مغلفة بورق مزين بالقلوب الحمراء..تجري ناحيتها ثم تتجاوزها لترتمي في حضن سيدة على الجانب الآخر من الشارع..تراهما في مشهد يعيد لها من الماضي مشهدا مماثلا -بل ربما مطابقا -..لها ..و لها..





مازال صوت الأغنية ينطلق من الحانوت : " ست الحبايب يا حبيبة" ..تتقبله الآن و تترك الطيف ليتسلل إلى كيانها و يحتله ..كوب القرفة باللبن في الليالي الباردة..الملاءة الوردية على سريرها الكبير..مكانها على طاولة الطعام..هديتها التي كانت تدخر من أجلها قروشها القليلة..تستسلم لإبتسامة واسعة و تتركها لتستقر فوق شفتيها..تزيل الحواجز و تهدم السدود لينساب نهر الذكريات في قوة و حرية ..فتمتليء روحها برائحة الفل و القرنفل و الريحان ..و تغشى عينيها صورة تجري وراء الأخرى لفساتين العيد المنفوشة و شرائط الساتان الملونة و كراريس الحساب و العربي و الحروف المكتوبة في صفوف عمودية و عروسة المولد المرسومة في كراس الرسم..و تزدحم أذنيها بأصوات تنبيهات و تحذيرات و ضحكات و دعوات





تملأ قطع الفسيفساء كيانها لتكون صورتها.. وتربت يداها الطيبتان على روحها التعبة فتصبح نار الفراق بردا و سلاما و تعود لتتدفأ بذكراها و كأنها تنام بين أحضانها





تهدأ تماما و تستدير لتعود إلى منزلها و لا تنسى و هي تمر بجوار الفتاة أن تهمس لها


"ربنا يخليهالك"